الأحد، 23 أكتوبر 2011

قرار جديد



لمْ أقدرْ عَلى الكلامِ , لَزِمْتُ الصمتَ , لَفَ السُكونُ المَكانَ كلَهُ , إلا قلبي الذي يَضِجُ بالألمِ , فَرَرْتُ عَنْ العُيونِ . وَالحَسرةُ تأخذُ مِني مَا تُريدُ ! ...
لِمَ خَذلتنِي شَجَاعَتي؟, كيفَ جَعلتُ الألسُنَ تَهزأُ بِها ؟, وَالموقفُ فِي حقيقتهِ يَسْخَرُ مِنِي. أي صديقةٌ أنا !, هَلْ تَخليتُ عَنْ شَهامتِي عَلى حِينِ غَفلةٍ مِنْ إيمانِي , أَمْ اِسْتسلمْتُ لِتلبيسِ إبليس.
كَانتْ البَهجةُ تخَطُرُ مِنها كَعادَتِها , وَهيَ تستقبلني كُلَ صباحٍ بابتسامتِها الساحرةِ, ويدِها الناعمةِ التي تصافحُنِي فتزغردُ أساريرِي, ويفرحُ عالمِي, وأشعرُ بالدفءِ والاطمئنانِ اللذين يدفعانِي لمواصلةِ يومي بكلِ أريحية.
لمْ تكنْ كأيِّ تلميذةٍ في المدرسةِ , لقد كانتْ رُوحها شفيفة , نقية , على غير العادة
توَّاقة للعلم, ثمِلةٌ بكأسهِ لا تفيقُ أبدا.
تعلو بنفسِها إلى السَحابِ , تلَقفُ أشعةَ العلومِ قبلَ أنْ تَهبطَ فَتُصبحُ مَشاعاً للآخرين !
مُلهمةُ الشُعور. لها عَينان تَبرقان ألمعيةً وَذكاء !
طالبةُ علمٍ حينَ تبدُو صُورتُهُ وسيلةً لِلضياعِ عِندَ الضائعين !! إلا هي !
هكذا ظَهرتْ لِي تلميذتي, لكن لا يتوجبُ عليَّ أنْ أبثَها هذهِ الرُؤية خشيةَ أنْ يعرفَ قلبها الوليد الغرور, وهي في بداية خطى المَجد, فتتعثرُ الخُطوات, وتتراجعُ الأمجادُ , وتتقهقر الأحلامُ , وَهيَ الأمل لِغدي وللدُنيا بأسرِها.
هَمَمْتُ بخطةٍ لِحَبيبتي , رَعيْتُ مَوهبتَها البِكر في الكِتابة, فأهديتُها كتبَ الرافعي, وَخططتُ عَلى دفاترِها جميل العِبارات لِتَحفيزِها, ثمَّ تجاهلتُ إصرارَها في معرفةِ رأيي بها , لكنهُ إحساسها الذي لا يخيبُ, وَبصيرتها النافذة.
قد كانت عيناي تفضحانِي فهي تُجيدُ قراءتهُما. وابتسامتُهَا لهُما خيرُ جوابٍ.
وَضحتُ مواطن القدح , وتركتْ المدح , مع تأييدِ لبعضِ المواقفِ الواضحة أمامَ زميلاتِها بصحةِ جوابِها وَبحضورِ ذكائِها, فمِن شأن ذلكَ أنْ يبعثَ فِيها تجددُ العَطاء.
يَا لفراستها التي تروي صدى الروحِ.
كمْ أخشى عَليها مِنْ نفسها والعُيون والدُنيا جميعها .
واليوم َ أراها تلقى الكيدَ منْ أقربِ الصديقات . تسخرُ منها الوجوهُ , وتؤيدهنَّ مديرةُ المدرسةِ , هل نجحتْ المكيدة ! اليوم أجِدُ على سُحنتِها الحُزن الكبير. وما مِنْ أمرٍ أَستطيعهُ لها سِوى الهُروب, خَشيةَ أنْ يُضيِّقوا عَليها الخِناقَ , لقد باتَ الحُبُ ذنبا عظيما علينا أنْ نحتفظَ بهِ وَحدنا , ونتحفظُ عليهِ أمامَ لمزِهم وهمزِهم , نكتمُهُ عنْ كلِ النَّظرات . إنهُ يُثيرُ غيظ َالحسادِ, ويهيّجُ ذنوبَ البشر , ويُغري السوادَ بالتفشِي . ويوحي للوشاة بشائعاتِ ألسنتهم .
رُوحِي تتألمُ كلمّا عادتْ بي الذِّكرى , كانتْ كأي صَبية يافعة تعشقُ الجمالَ, وفي ذلك اليوم المكتوب علينا فيهِ الأسى, أحضرتْ صُوراً خاصةً لَها وَلِأُسْرَتِها فَسارعَ الوشاةُ بالتبليغِ, وما مِنْ ناصحٍ لَها أو حَتى لِي .
وَلأني رائدة الصف كانَ استدعائي ضرورةً مَلحةً إلى غرفةِ الإدارة لبحثِ أمرها , دخلتُ ووجدتُ الدموع تملأ ُوجنتيها المخمليتين , ووجهها ينزفُ حزناً , وشعرُها المُنسدلُ على كتفيها يحاولُ أنْ يضمَها ويلفها عن هول صدمتي بها.
والمديرةُ استشاطتْ غضبا وملامحُها كلها تصرخُ :
هذا إهمالك يا أستاذة هدى ودلالك لفتاتك !
هل هذه الفتاة الموهوبة البريئة التي تحبين, هاهي تخون ثقتك , تستغل طيبتك . وهي حية تسعى ! تنشر الأوبئة في الفصل , وأنتِ في غفلةٍ عنها!
كانتْ دقائقُ مَعدوداتٌ والهاتف يهتفُ بهتافِ والدِها مُوبخاً لَها , بعدَ أنْ بلغتهُ المُديرة , أمّا وكيلة المَدرسة فقدْ أخذتْ تعهدا خطيا عليها , والكاتبة الإدارية تكتب تبليغا رسميا لولي أمرِها بالصور مع أخذ توقيعه بعدمِ تكرار المَوقف منْ قبلِ ابنتهِ .
لمْ أكنْ أتمنى إلا أنْ أقولَ ( نحنُ بشر قدْ نزِلُ ونُخطئُ فما بالكم بفتاةٍ يانعةٍ في عمر الزهور )
ولكن اللسان خانني , والأسى ألجمني , والذهولُ من الواقعةِ أخرسني , والعيون الشامتة التي تنتظرُ الهزيمةَ أفجعتني.
لِقد وقع الجَمَل؟ وتأهبتْ السكاكين.
لمَ لا نصفحُ ؟
هل غادرتنا الرحمةُ ؟
لمَ لا يتسعُ أفقُنا للنظرِ إلى مَن المُستفيد الأول , ومَن المتضرر الأكبر مِن الحادث ؟
هل الغفرانُ لذنبٍ عابرٍ يعدُ غلطا ؟
هل يتوجبُ علينا أنْ ننسى تاريخا جميلا لإنسانٍ في لحظةِ ضعفهِ؟ فيكون هذا ضعفنا ؟
هل حل مشكلة بشكل سري يُعد تسترا؟ أم سِتر ذنب غير مقصود أصبح ماضيا لنْ يعودَ ؟ يا أخلاقاً تلاشتْ.
أتُراني خشيتُ تفسيرَ حُبنا على مَحمل آخر , وهو ذَهابُ نزاهتي.
كانتْ تلك الأسئلة خطابي لعينيها الذي أعياه البوح .
أما خطابها لعينيِّ فهي دموع الندم , وآهات سكين الغدر الذي ينزفُ من صميمِ فؤادِها, وهو غَرْزُ يدِ زميلاتها في قلبِ سُمعتِها وحُسن صيتِها لينالَ منها وربما مني.
وقفتْ المُرشدة الطلابية حائرةً أمامَ صمتي وصمتها, بينما عيناي وعيناها لا يغضانِ الطرفَ بعضهما عن بعض.
وأي ملمةٍ ألمّت بقلبينا .
وأنا بين مثاليتي ورأفتي بها , لمْ أقوَ على الدفاعِ عنها, فمعروفٌ عني أنني منْ أشدِ المعلمات حِرصاً على مَنعِ المُخالفات بأنواعِها بين الطالبات.
حدسٌ يتملكني , غدرٌ كبيرٌ وقعَ عليها, وخطةٌ مرسومةٌ بدهاءِ خبير للنيلِ منها , ولكن مَنْ يفهم ؟ وكيف لا أُفهمُ غلط . !
جمعتُ أنفاسي , وخرجتُ بقرار جديد ......

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق