الأحد، 23 أكتوبر 2011

لا أختلف عنك




هتفَ بصوتٍ عالٍ لم يدعْ لنا معهُ بضعَ نسمات نتنسمها من أنسام غرفة مكتبه الكبيرة الفارغة إلا من صورته ! , لم يدع للأكوان الأخرى فسحةً لتشاركه أمره الطاغي وشخصه العالي, ونحنُ لا نملكُ من أمرنا إلا الصمت الجبري أمام صراخه. وبضعة أنفاس متوجسات نزفرها رعبا , أما حركتنا فالهويني في حضرته !
هذه الصرخة هي العلامة التي تؤذن ببدءِ محاضراته والتي ديدننا فيها الاستماع فقط . وإلا فمصيرنا غير معروف لوفرة الاحتمالات وأبعادها الكبيرة !
مكتبه عتيق جدا , لونه بني حالك الظُلمة , لا تكاد تتبين لَونهُ إلا بعد أن تمعن النظرَ فيهِ على حين خلسة من أنظاره الفاحصة ,ومَا مِنْ اشراقة حولك تلفت نظرك إليها .
أما نوافذ الغرفة فمشرعة لتجلبَ الهواء لهُ فقط . دون أن يُجملها بستائر تحجب قسوة الشمس حين تسطع ! كشمسه التي لا تأفل بقسوة حرارتها.
كل ما حوله يصيح بعجرفته , الكتب التراثية الضخمة المرصوصة على مكتبه, وهي تعزفُ النظر عن أي جديد مقبل على الحياة ! ومجموعة أقلام تائهة في مقلمة تقليدية شاحبة اللون ذاتَ أطراف حادة, أما قلمه الثمين الذي يوقع بهِ فمقره جيب معطفه الأنيق , لا يقبل أن تلمسه غير أنامله , حتى كرسي المكتب الضخم يعلو ظهره كبرا وغرورا !
لا يضعُ أستاذي في غرفة مكتبه أي ورود أو صور أو لوحات ترمز لروح رقيقة تُحس الآخرين , أو تدل على ذات مشرقة محبة متفائلة !
قد تمر بجانب مكتبه فينظر لك شزرا , فتتنحى بعيدا عنه جبرا , مع أنك لم تقصده . !
أما إذا دخل عليهِ تلميذ, محدود المستوى العلمي , مستجد في الكلية , قليل المعرفة بهِ , ليسأل عما يُشكل عليه , لن يطول بك الوقت حتى تسمع صراخ الدكتور المبجل في وجهه, فنعرف أن الطردَ كان مصيره المحتوم , لأنه لم يكن على المستوى المطلوب في ثقافة الحوار .
إنه رجل لا يرى إلا ذاته , يرفض أن يستمع لآراء الآخرين . لا ينادي إلا لمذهبه الذي وصل إليه ! كنتُ أعرف قبل لقائي بهِ أنه مؤسس منهج نقدي كان له جذورا قديمة في تاريخنا النقدي, حيثُ وضع الأصول والقواعد والأسس بكل خطى ثابتة وبدقة متناهية, ولأنني لا أنكر هذا الفضل لأستاذي فقد عمدتُ إلى قراءة كتبه كلها, فما رأيتُ فيها إلا فكرا صحيحا ونهجا واضحا وتناسقا, لا تناقضَ بينها على كثرتها وتنوعها .
أترى غروره هو احتفاظه بهويته ! خشيته على مكانته أو ربما إحساسه بإهمال آرائه وهو على مشارف الوداع , وهل عادة نقدنا الأدبي الجميل إلا تناسي الأعلام ! وبحث أبحاثهم بعد رحيلهم! وهو الرجل الذي تخطى الثمانين وتلميذ شيخنا الدكتور شوقي ضيف رحمه الله .
ولأن هذا الدكتور وجدَ في المعيد ( .....) ضالته المنشودة وصورته المكرورة, فقد كان يُعظم أمره , ولا يهتفُ إلا باسمهِ . والبقية مع الهمل يرعون بعيدا عن بستانه الزاهر !!!
فلا يكلف نفسه نظرة خاطفة لهم , ولا يمنحهم وقتا للسؤال أو المشاركة الحرة أو التجاوب أو حتى قراءة النصوص التي يكلف بها سوى تلميذه النجيب وابنه الحبيب .
ولأنه التمثال الآخر لهُ , فإنَّ حالَه منْ حالِه, وهيئته من هيئته, وغروره يسير معه في كل مكان يدوسه !!!
وعقدتُ العزم أن أشاكسَ هذا الرجل الكهل ليعزفَ عن غروره, ويمنحنا من عطفه وتوجيهه, بدلاً من صدِه وتقتيرِه . أمَّا تلميذه المدلل والمعيد في القسم فقد أزمعتُ تحطيم رأس غطرسته بعلمي .
ولأنني من النوع الذي يتريث حتى تحين الفرصة المواتية , فقد أخطأ الابن المدلل في يومِ نحسٍ مُستمر خطأ أرادَ هو أنْ يتجاوزَهُ على حين غفلة من الآخرين, لكنّي أبيتُ إلا التصويب له . ثم بدأتُ أقرأ على أستاذنا ما فات عليهِ من محفوظاتي الشعرية بلا كتاب وهو ما عجز عنه تلميذه المتفلسف !
وبدأ الدكتور يهتم بي ويلتفت لوجودي الذي كان لا وجودَ لهُ ! ويُفسح لي مكانا في المقدمة لأجلس فيه ويتبسم في وجهي بعد أيام من العبوس والذي زاد منها تجاعيد وجهه الواضحة.
ومن حسنات الموقف أنني أصبحت أنعم بالدلال من حزب الزميلات لأنني رددتُ لهن بعضا من اعتبارهن .
وفي يوم آخر لم يكن الحظ فيه حليفا لتلميذه الواعد , أخذ أستاذنا يتحدث عن المذاهب الحديثة التي ظهرت بسرعة ثم اختفت, وبكل أسف لهُ كان حديث الدرس هو النقد النسوي , وأخذ الرجل يُكيل ذما بالمرأة وتقييدها للنقد بجنس ما, وأن هذه الدعوة هي دعوة سافرة لمهاجمة الأدب والنقد الشامل التكاملي, وكأنه وجد فرصة لنفث ما في صدره من غيظ علينا نحنُ مجتمع النساء, بل وكأننا نحنُ طالباته مَن دعونا لمذهب قد مات قبل أن نخوض معترك الحياة, ولزمت الصمت في البداية احتراما لشعره الأبيض الذي بات يصرخ وجعا من وجعي المخنوق !!! ولكنه أخذ يرمي عليه الاتهامات ومن بينها أنه نقد اجتماعي فاشل !
وهنا نهضتُ وصرختُ في وجهه والكل يرمقني خشية على عمري الذي سيضيع على يديه, ومستقبلي الذي سيرحل إلى الفناء مع نظراته الحادة . قائلةً :
( وهل كان المذهب الرومانسي إلا مذهبا اجتماعيا بدأ مع الثورة الفرنسية والتي حاربت الطبقية فكان مذهبا اجتماعيا ثوريا ثم أضحى تأثيره على الأدب فكُتِبَ له النجاح )
صمت الدكتور للحظات ثم رمقني, وكان كل التلاميذ يرقبون نهايتي ويرتقبون رحيلي من الحياة الأكاديمية .
وكان رده : أحسنتِ وأنا لا أختلف معكِ وتبسم في وجهي , ثم اعتدل في جلسته على كرسيه الذي يكبره بمسافات .
ونظرت لي صديقتي بكل فرح ( الحمد لله هدأت العاصفة , رد جميل هدى , بارعة )
أما تلميذه المغرور فقد عرف أن منافسا له خطيرا في الطريق إليه, لابد أن يتوخى الحذر منهُ .!!!
أما أنا فقد أخذتني العبرة , واستولى عليَّ الألم , أي جاهلية حديثة نحياها في ظل علم مستبد لا نجد فيه فسحة من حرية فكرية لرأيٍ نقدمه لا يعارض هويتنا , أو صدرا يتسع لمدرسة نأمل تكاملها فاندثرت على يد الآخر قبل أن تنمو !
ولأنه رجل قد تخطى الثمانين فقد شعرتُ بأنه يحتاج إلى العطف, ويفتقد الألفة مع الآخرين وهو على مشارف النهاية !! فأشفقتُ عليه, وصددتُ عنه . واستمرَ مُعترك الحياة !!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق