يحز في نفسي ويؤلم قلبي ما أراه من بعض النقاد أو من بعض متذوقي الشعر في حكمهم على صور الشعراء الخيالية بأنها بعيدة عن المنطق أو العلاقة العقلية القريبة بين المشبه والمشبه به وكأنهم يطلبون من الشاعر أن يمضي في طرق طبيعية واضحة للعيان وهو في غضون تأجيج فتيل إبداعه بالخيال الذي لا يعرف بدوره لغة المنطق ولا يفهم الطبيعة التي يعرفها كل الناس للأشياء .
إن المبدع فورة انفعالية وطاقة خيالية لا يمكن أن نحصرهما في علاقات طبيعية ومنطقية للأشياء, وإلا سيكون كل شاعر مطالبا بقيود المنطق لا غير, فتصبح الصور كلها مكرورة وتقليدية ولا خروج عن تلك الطبيعة التي نعرفها جميعا . فلا نرى جمالا ولا جديدا ولا تميزا في النصوص.
إن الحكم الصحيح على صور الأديب تنطلق من معرفتنا بشخصية ونفس الأديب وطبيعة تكوينه الخاصة والمختلفة عن جميع البشر .
فالشاعر بصورة خاصة له لغة خاصة به, تقوم على الصورة الفنية الجزئية والكلية الكثيفتين في قصائده وفي أبياته.
وهو في أحيان كثيرة يهتك العلاقات ليكون له فضاء لغوي يستطيع أن ينطلق فيه بصورة أكبر فيتحرر من العالم الذي يعيش فيه بقيود التقاليد والعادات التي لا يجد فيها إشباعا ترضي فورة خياله وتساير دفق عاطفته وتهديه وهو في رحلة بحث عن الحقيقة وإثباتها بصور شتى في إبداعه.
من هنا جاء الالتفات اللغوي والعدول كي يشبعا نهم الأديب فيبحر معهما في عوالم أخرى يرغب في السباحة فيها كما يُريد, فيحقق تلك المعادلة النفسية التي ترضي سعة خياله وتجدِدُ عاطفته وحبه الكبير للمعرفة والبحث الدائم عن الحقيقة.
ينبغي لصور الأديب أن تكون جديدة تعكس تميز شخصيته وقدرته على التجديد ومواكبة الحديث.
من واجب النقاد أن يمعنوا النظر في الدلالة العميقة لصور الأديب عوضا عن اتهامه بالقصور والضعف والنقص في التصوير .
فربما هناك شرفة رآها الأديب لم نستطع في برهة خاطفة أن نراها ونرى ما تفضي إليه من جمال .
لا بد أن نفسح المجال للشعراء خاصة والأدباء عامة كي يُبدعوا فنستوعب نمط شخصياتهم المتدفقة بالعطاء والراغبة في التجديد .
يقول د. جابر عصفور ( يجنح الناقد المعاصر ـ عادة ـ إلى القول بأن نوعية الخيال وإمكانياته وفاعليته هي ما تميز الفنان المبدع عن غيره , ولا تنفصل قيمة الشاعر الخاصة ـ في مثل هذا التصور ـ عن قدرته الخيالية التي تمكنه من التوفيق بين العناصر والتي تجعله يكتشف بينها علاقات جديدة ) *
فكلمة جثة قد تأتي مع الروح وإن بدتْ لنا صورة ( جثة الروح ) بعيدة الفهم والتصور, لكنها بالنسبة للمبدع تبدو مألوفة نتجت عن زفرة ألم رأى فيها الأرواح رخيصة بالنسبة للعدو الغاشم حتى تمثلت الجثث أمام عيني الشاعر وهو يتساءل أين أرواحها الغالية ؟
إنَّ الأرواح خرجتْ والشاعر يسير بين تلك الجثث الهامدة , فكأن تلك الروح الغالية لم تعد إلا هباء منثورا في صورة جثة هامدة ..
هل رأيت كيف بدت الصورة أكثر وضوحا لك بعد فهمها ؟
تحيتي
*الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب , د.جابر عصفور , المركز الثقافي العربي , ط3 , 1992م , بيروت , لبنان . ص 13